ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية
إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالاْنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُل وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لله رِضىً، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْن أَوْبِدْعَة رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ منه، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى. وَلَعَمْرِي، يَا مُعَاوِيَةُ، لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَلَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَة عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ تَتَجَنَّى (5) فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ! وَالسَّلاَمُ.
____________
- تجنّى ـ كتولّى ـ: ادعى الجناية على من لم يفعلها
الرواية أصلها في كتب السنة ونُقلت من كتاب صفين لنصر بن مزاحم السني
- وقعة صفين، النص، ص: 29
[مكاتبة علي ع مع معاوية و إرسال جرير اليه] نَصْرٌ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ نُمَيْرِ بْنِ وَعْلَةَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيّاً عليه السلام حِينَ قَدِمَ مِنَ الْبَصْرَةِ نَزَعَ جَرِيراً هَمْدَانَ فَجَاءَ حَتَّى نَزَلَ الْكُوفَةَ فَأَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ رَسُولًا فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ ابْعَثْنِي إِلَى مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ لِي مُسْتَنْصِحاً وَ وُدّاً «2» فَآتِيَهُ «3» فَأَدْعُوَهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَكَ هَذَا الْأَمْرَ وَ يُجَامِعَكَ عَلَى الْحَقِّ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَمِيراً مِنْ أُمَرَائِكَ وَ عَامِلًا مِنْ عُمَّالِكَ مَا عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَ اتَّبَعَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَ أَدْعُو أَهْلَ الشَّامِ إِلَى طَاعَتِكَ
وَ وَلَايَتِكَ وَ جُلُّهُمْ «1» قَوْمِي وَ أَهْلُ بِلَادِي وَ قَدْ رَجَوْتُ أَلَّا يَعْصُونِي-.فَقَالَ لَهُ الْأَشْتَرُ لَا تَبْعَثْهُ وَ دَعْهُ وَ لَا تُصَدِّقْهُ فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ هَوَاهُ هَوَاهُمْ وَ نِيَّتَهُ نِيَّتَهُمْ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «دَعْهُ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يَرْجِعُ بِهِ إِلَيْنَا» فَبَعَثَهُ عَلِيٌّ ع وَ قَالَ لَهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُ: «إِنَّ حَوْلِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَ الرَّأْيِ مَنْ قَدْ رَأَيْتَ وَ قَدِ اخْتَرْتُكَ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ص فِيكَ-: إِنَّكَ مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ «2» ائْتِ مُعَاوِيَةَ بِكِتَابِي فَإِنْ دَخَلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَ إِلَّا فَانْبِذْ إِلَيْهِ «3» وَ أَعْلِمْهُ أَنِّي لَا أَرْضَى بِهِ أَمِيراً وَ أَنَّ الْعَامَّةَ لَا تَرْضَى بِهِ خَلِيفَةً.» فَانْطَلَقَ جَرِيرٌ حَتَّى أَتَى الشَّامَ وَ نَزَلَ بِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا مُعَاوِيَةُ فَإِنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ لِابْنِ عَمِّكَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَ أَهْلُ الْمِصْرَيْنِ «4» وَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَ أَهْلُ الْيَمَنِ وَ أَهْلُ مِصْرَ وَ أَهْلُ الْعَرُوضِ وَ عُمَانَ وَ أَهْلُ الْبَحْرَيْنِ وَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَهْلُ هَذِهِ الْحُصُونِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا لَوْ سَالَ عَلَيْهَا سَيْلٌ مِنْ أَوْدِيَتِهِ غَرَقَهَا وَ قَدْ أَتَيْتُكَ أَدْعُوكَ إِلَى مَا يُرْشِدُكَ وَ يَهْدِيكَ إِلَى مُبَايَعَةِ هَذَا الرَّجُلِ.
وَ دَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَ فِيهِ«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ بَيْعَتِي بِالْمَدِينَةِ لَزِمَتْكَ وَ أَنْتَ بِالشَّامِ «1» لِأَنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ وَ عُثْمَانَ عَلَى مَا بُويِعُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ وَ إِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ فَسَمَّوْهُ إِمَاماً «2» كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ رِضًا فَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ رَغْبَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَ وَلَّاهُ «3» اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَ يُصْلِيهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً وَ إِنَّ طَلْحَةَ وَ الزُّبَيْرَ بَايَعَانِي ثُمَّ نَقَضَا بَيْعَتِي وَ كَانَ نَقْضُهُمَا كَرَدِّهِمَا فَجَاهَدْتُهُمَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيَّ فِيكَ الْعَافِيَةُ إِلَّا أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ فَإِنْ تَعَرَّضْتَ لَهُ قَاتَلْتُكَ وَ اسْتَعَنْتُ اللَّهَ «4» عَلَيْكَ وَ قَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ حَاكِمِ الْقَوْمَ إِلَيَّ أَحْمِلْكَ وَ إِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُهَا فَخُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ وَ لَعَمْرِي لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدُنِي أَبْرَأَ قُرَيْشٍ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَ اعْلَمْ أَنَّكَ مِنَ الطُّلَقَاءِ «5» الَّذِينَ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الْخِلَافَةُ وَ لَا تَعْرِضُ فِيهِمُ الشُّورَى وَ قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ-وَ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ «1» جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَ الْهِجْرَةِ فَبَايِعْ وَ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَامَ جَرِيرٌ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودِ بِالْعَوَائِدِ «2» الْمَأْمُولِ مِنْهُ الزَّوَائِدُ الْمُرْتَجَى مِنْهُ الثَّوَابُ الْمُسْتَعَانِ عَلَى النَّوَائِبِ أَحْمَدُهُ وَ أَسْتَعِينُهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَحَيَّرَ دُونَهَا الْأَلْبَابُ وَ تَضْمَحِلُّ عِنْدَهَا الْأَسْبَابُ «3» وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بَعْدَ الْفَتْرَةِ وَ بَعْدَ الرُّسُلِ الْمَاضِيَةِ «4» وَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ «5» وَ الْأَبْدَانِ الْبَالِيَةِ وَ الْجِبِلَّةِ الطَّاغِيَةِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَ نَصَحَ الْأُمَّةَ وَ أَدَّى الْحَقَّ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ وَ أَمَرَهُ بِأَدَائِهِ إِلَى أُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ مِنْ مُبْتَعِثٍ وَ مُنْتَجَبٍ. «6» ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَمْرَ عُثْمَانَ قَدْ أَعْيَا مَنْ شَهِدَهُ فَمَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ غَابَ عَنْهُ وَ إِنَّ النَّاسَ بَايَعُوا عَلِيّاً غَيْرَ وَاتِرٍ وَ لَا مَوْتُورٍ وَ كَانَ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ مِمَّنْ بَايَعَهُ ثُمَّ نَكَثَا بَيْعَتَهُ عَلَى غَيْرِ حَدَثٍ أَلَا وَ إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَا يَحْتَمِلُ الْفِتَنَ-أَلَا وَ إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَحْتَمِلُ السَّيْفَ «1» وَ قَدْ كَانَتْ بِالْبَصْرَةِ أَمْسِ مَلْحَمَةٌ إِنْ يَشْفَعِ الْبَلَاءُ بِمِثْلِهَا فَلَا بَقَاءَ لِلنَّاسِ وَ قَدْ بَايَعَتِ الْعَامَّةُ «2» عَلِيّاً وَ لَوْ مَلَّكَنَا اللَّهُ أُمُورَنَا «3» لَمْ نَخْتَرْ لَهَا غَيْرَهُ وَ مَنْ خَالَفَ هَذَا اسْتَعْتَبَ «4» فَادْخُلْ يَا مُعَاوِيَةُ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَإِنْ قُلْتَ اسْتَعْمَلَنِي عُثْمَانُ ثُمَّ لَمْ يَعْزِلْنِي فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَوْ جَازَ لَمْ يَقُمْ لِلَّهِ دِينٌ وَ كَانَ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا فِي يَدَيْهِ وَ لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلِ لِلْآخَرِ مِنَ الْوُلَاةِ حَقَّ الْأَوَّلِ وَ جَعَلَ تِلْكَ أُمُوراً مُوَطَّأَةً وَ حُقُوقاً يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضاً.
ثُمَّ قَعَدَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ انْظُرْ وَ نَنْظُرُ وَ اسْتَطْلَعَ رَأْيَ أَهْلِ الشَّامِ.
فَلَمَّا فَرَغَ جَرِيرٌ مِنْ خُطْبَتِهِ أَمَرَ مُعَاوِيَةُ «5» مُنَادِياً فَنَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدَّعَائِمَ لِلْإِسْلَامِ أَرْكَاناً وَ الشَّرَائِعَ لِلْإِيمَانِ بُرْهَاناً يُتَوَقَّدُ قَبَسُهُ «6» فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مَحَلَّ الْأَنْبِيَاءِ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ فَأَحَلَّهَا أَهْلَ الشَّامِ «7» وَ رَضِيَهُمْ لَهَا وَ رَضِيَهَا لَهُمْ لِمَا سَبَقَ مِنْ مَكْنُونِ عِلْمِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَ مُنَاصَحَتِهِمْ خُلَفَاءَهُ وَ الْقُوَّامَ بِأَمْرِهِ وَ الذَّابِّينَ عَنْ دِينِهِ وَ حُرُمَاتِهِ ثُمَّ جَعَلَهُمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ نِظَاماً وَ فِي سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ أَعْلَاماً يَرْدَعُ اللَّهُ بِهِمُ النَّاكِثِينَ وَ يَجْمَعُ بِهِمْ أُلْفَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَ اللَّهَ نَسْتَعِينُ عَلَى مَا تَشَعَّبَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الِالْتِئَامِ وَ تَبَاعُدِ بُعْدِ الْقُرْبِ اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى أَقْوَامٍ يُوقِظُونَ نَائِمَنَا وَ يُخِيفُونَ آمِنَنَا وَ يُرِيدُونَ هِرَاقَةَ دِمَائِنَا «1» وَ إِخَافَةَ سَبِيلِنَا وَ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّا لَمْ نُرِدْ بِهِمْ عِقَاباً «2» وَ لَا نَهْتِكُ لَهُمْ حِجَاباً وَ لَا نُوْطِئُهُمْ زَلَقاً غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ الْحَمِيدَ كَسَانَا مِنَ الْكَرَامَةِ ثَوْباً لَنْ نَنْزِعَهُ طَوْعاً مَا جَاوَبَ الصَّدَى وَ سَقَطَ النَّدَى وَ عُرِفَ الْهُدَى حَمَلَهُمْ عَلَى خِلَافِنَا الْبَغْيُ وَ الْحَسَدُ فَاللَّهَ نَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ «3» أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي خَلِيفَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَ أَنِّي خَلِيفَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَلَيْكُمْ «4» وَ أَنِّي لَمْ أُقِمْ رَجُلًا مِنْكُمْ عَلَى خِزَايَةٍ قَطُّ «5» وَ أَنِّي وَلِيُّ عُثْمَانَ وَ قَدْ قُتِلَ مَظْلُوماً وَ اللَّهُ يَقُولُ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً وَ أَنَا أُحِبُّ أَنْ تُعْلِمُونِي ذَاتَ أَنْفُسِكُمْ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ فَقَامَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَجْمَعِهِمْ فَأَجَابُوا إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ «6» وَ بَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَ أَوْثَقُوا لَهُ عَلَى أَنْ يَبْذُلُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ أَوْ يُدْرِكُوا بِثَأْرِهِ أَوْ يُفْنِيَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ «7» ..
فلما أمسى معاوية و كان قد اغتم بما هو فيه
قَالَ نَصْرٌ فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ الْجُرْجَانِيِّ قَالَ: لَمَّا جَنَّ مُعَاوِيَةَ اللَّيْلُ وَ اغْتَمَّ وَ عِنْدَهُ أَهْلُ بَيْتِهِ قَالَ
… تَطَاوَلَ لَيْلِي وَ اعْتَرَتْنِي وَسَاوِسِي … لِآتٍ أَتَى بِالتُّرَّهَاتِ الْبَسَابِسِ «1» أَتَانَا جَرِيرٌ وَ الْحَوَادِثُ جَمَّةٌ
… بِتِلْكَ الَّتِي فِيهَا اجْتِدَاعُ الْمَعَاطِسِ «2» أُكَابِدُهُ وَ السَّيْفُ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ … وَ لَسْتُ لِأَثْوَابِ الدَّنِيِّ بِلَابِسٍ «3» إِنِ الشَّامُ أَعْطَتْ طَاعَةً يَمَنِيَّةً
… تُوَاصِفُهَا أَشْيَاخُهَا فِي الْمَجَالِسِ … فَإِنْ يُجْمِعُوا أَصْدِمْ عَلِيّاً بِجَبْهَةٍ «4»
… تَفُتُّ عَلَيْهِ كُلَّ رَطْبٍ وَ يَابِسٍ … وَ إِنِّي لَأَرْجُو خَيْرَ مَا نَالَ نَائِلٌ
… وَ مَا أَنَا مِنْ مُلْكِ الْعِرَاقِ بِآيِسٍ … وَ إِلَّا يَكُونُوا عِنْدَ ظَنِّي بِنَصْرِهِمْ
… وَ إِنْ يُخْلِفُوا ظَنِّي كف عابس «5».__________________________________________________
(1) في الأصل: « .. بيعتي لزمتك بالمدينة و أنت بالشام»، و الوجه ما أتيت من ح (1: 248).
(2) ح: «إذا اجتمعوا على رجل و سموه إماما».
(3) في الأصل: «و وليه»، و أنبت الصواب من ح.
(4) ح: «باللّه».
(5) الطلقاء: جمع طليق، و هو الأسير الذي أطلق عنه إساره و خلى سبيله. و يراد بهم الذين خلى عنهم رسول اللّه يوم فتح مكّة و أطلقهم و لم يسترقهم.
379 – كتاب على إلى معاوية
ولما قدم جرير بن عبد الله البجلى على علىّ عليه السلام بعد وقعة الجمل- وجّهه علىّ إلى معاوية فى أخذ بيعته، وكتب معه كتابا إليه:
«سلام عليك، أما بعد فإن بيعتى بالمدينة لزمتك وأنت بالشأم، لأنه بايعنى القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وإنما الشّورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما، كان ذلك لله رضا، وإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولّاه الله ما تولّى وأصلاه جهنّم وساءت مصيرا.
ومن كلام له (عليه السلام) وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جرير بن عبدالله البجلي إلى معاوية
إِنَّ اسْتَعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَجِرِيرٌ عِنْدَهُمْ، إِغْلاَقٌ لِلشَّامِ، وَصَرْفٌ لاِهْلِهِ عَنْ خَيْر إِنْ أَرادُوهُ، وَلكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِير وَقْتاً لاَ يُقِيمُ بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً، وَالرَّأْيُ مَعَ الاْنَاةِ (1)، فَأَرْوِدُوا (2)، وَلاَ أَكْرَهُ لَكُمُ الاْعْدَادَ (3).
وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هذَا الاْمْرِ وَعَيْنَهُ (4)، وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطنَهُ، فَلَمْ أَرَلِي إِلاَّ الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ. إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى الاْمَّةِ وَال أَحْدَثَ أَحْدَاثاً، وَأَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالاً (5)، فَقَالُوا، ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّروا.
____________
- الاناة: التثَبّتُ والتأني.
- أرْوِدُوا: ارفقُوا، أصله من أرْوَدَ في السير إرواداً، إذا سار برفق.
- الاعْداد: التهيئة.
- وَلَقَدْ ضرَبْتُ أنْفَ هذا الامْرِ وعَيْنَهُ: مَثَلٌ تقوله العرب في الاستقصاء في البحث والتأمل والفكر. 5. أوْجَدَ الناسَ مَقالاً: جعلهم واجدين له.
فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعْني إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله)
ومن كلام له (عليه السلام)
[وفيه يصف أصحابه بصفين حين طال منعهم له من قتال أهل الشام:] فَتَدَاكُّوا (5) عَلَيَّ تَدَاكَّ الاْبِلِ الْهِيمِ (6) يَوْمَ وِرْدِهَا (7)، قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا، وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا (8)، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِليَّ، أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْض لَدَيَّ، وَقَدْ قلَّبْتُ هذَا الاْمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ، فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعْني إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله)، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الاْخِرَةِ.____________
- الاضحية: الشاة التي طلب الشارع ذبحها بعد شروق الشمس من عيد الاضحى.
- اسْتِشراف أُذُنِها: نَفَقّدُها حتى لاتكون مجدوعة أومشقوقة.
- عَضْباء القَرْن: مكسورته.
- تَجُرّ رجلها إلى المنْسَك: أي عرجاء; والمنسك: المذبح.
- تَدَاكّوا: تزاحموا عليه ليبايعوه رغبةً فيه.
- الهيِم: العِطاش من الابل.
- يوم وِرْدِها: يوم شربها الماء.
- المثَاني ـ جمع المثناة بفتح الميم وكسرها ـ: حبل من صوف أوشعر يُعْقَلُ به البعير.
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا
ومن كلام له (عليه السلام)
وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين
أمَّا قَوْلُكُمْ: أَكُلَّ ذلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ؟ فَوَاللهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى المَوْتِ أَوْ خَرَجَ المَوْتُ إِلَيَّ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: شَكّاً في أَهْلِ الشَّامِ! فَوَاللهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلاَّ وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي، وَتَعْشُوَ إِلى ضَوْئِي (1)، فهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا (2).
____________
- تَعْشُو إلى ضوئي: تستدل عليه ببصر ضعيف.
- تَبُوء بآثامها: ترجع.
وَعَصَيْتَهُ أَنْتَ وأَهْلُ الشَّامِ بِي،
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ [قَدْ] جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، وَابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا، لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا، وَلاَ بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا، وَإِنَّمَا وُضِعْنَا فِيها لِنُبْتَلَى بِهَا، وَقَدِ ابْتَلاَنِي [اللهُ] بِكَ وَابْتَلاَكَ بِي: فَجَعَلَ أَحَدَنَا حُجَّةً عَلَى الاْخَرِ، فَعَدَوْتَ (1) عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا بَتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَلاَ لِسَانِي، وَعَصَيْتَهُ أَنْتَ وأَهْلُ الشَّامِ بِي، وَأَلَّبَ (2) عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ، وَقَائِمُكُمْ (3) قَاعِدَكُمْ. فَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ، وَنَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ (1)، وَاصْرِفْ إِلَى الاْخِرَةِ وَجْهَكَ، فَهِيَ طَرِيقُنَا وَطَرِيقُكَ.
وَاحْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اللهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَة (2) تَمَسُّ الاْصْلَ (3)، وَتَقْطَعُ الدَّابِرَ (4)، فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللهِ أَلِيَّةً (5) غَيْرَ فَاجِرَة، لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَإِيَّاكَ جَوَامِعُ الاْقْدَارِ لاَ أَزَالُ بِبَاحَتِكَ (6) (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)
____________
- عَدَوْت: أي وثبت.
- ألّب ـ بفتح الهمزة وتشديد اللام ـ أي: حرّض.
- قالوا: يريد بالعالم أبا هريرة وبالقائم عمروبن العاص.
- القِياد ـ بالكسر ـ: الزمام. ونازعه القِياد: إذا لم يسترسل معه.
- القارعة: البلية والمصيبة.
- تمسّ الاصل: أي تصيبه فتقلعه.
- الدابر: هوالاخر.
- أولي ألية: أي احلف بالله حلفة غير حانثة.
- الباحة: كالساحة وزناً ومعنى.
عَجَباً لاِبْنِ النَّابِغَةِ
ومن كلام له (عليه السلام)
في ذكر عمروبن العاص
عَجَباً لاِبْنِ النَّابِغَةِ (1)! يَزْعُمُ لاِهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً (2)، وَأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ (3): أُعَافِسُ وَأُمَارِسُ (4)! لَقَدْ قَالَ بَاطِلاً، وَنَطَقَ آثِماً. أَمَا ـ وَشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ ـ إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، وَيَعِدُ فَيُخْلِفُ، وَيُسْأَلُ فَيَبْخَلُ، وَيَسْأَلُ فَيُلْحِفُ (5)، وَيَخُونُ الْعَهْدَ، وَيَقْطَعُ الاْلَّ (6) ; فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِر وَآمِر هُوَ! مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا، فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَوْمَ سُبَّتَهُ (7).
أَمَا واللهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْموْتِ، وَإِنَّهُ لَيمَنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الاْخِرَةِ، إِنَّهُ لَمْ يُبَايعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ لَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً (2)، وَيَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً (8).
____________
- النابغة: المشهورة فيما لا يليق بالنساء، من «نبغ» إذا ظهر.
- الدُعابة ـ بالضم ـ: المزاح واللعب.
- تِلعابة ـ بكسر التاء ـ: كثير اللعب.
- أُعافِس: أعالج الناس وأُضاربهم مِزاحاً، ويقال: المعافسة: معالجة النساء بالمغازلة والممارسة كالمُعافَسة.
- يُلْحِف: أي يلح.
- الالّ ـ بالكسر ـ: القرابة، والمراد من قطع الالّ أن يقطع الرحم.
- السّبّة ـ بالضم ـ: الاست.
- رَضَخَ له رَضِيحةً: أعطاه قليلاً.
وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ
ومن كلام له (عليه السلام)
[في أصحابه وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)] [أصحاب علي (عليه السلام)]وَلَئِنْ أَمْهَلَ اللهُ الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ، وَهُوَ لَهُ بَالمِرْصَادِ (1) عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ، وَبِمَوْضعِ الشَّجَا (2) مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ (3).أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَظْهَرَنَّ هؤُلاَءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ، لَيْسَ لاِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ، وَلكِنْ لاِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي.
وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الاْمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي. اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا.
شُهُودٌ كَغُيَّاب (4)، وَعَبِيدٌ كَأَرْبَاب! أَتْلُوا عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا، وَأَعِظُكُمْ بِالمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا، وَأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا (1)، تَرْجِعُونَ إِلى مَجَالِسِكُمْ، وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ، أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً، وَتَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً، كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ (2)، عَجَزَ الْمُقَوِّمُ، وَأَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ (3).
أَيُّهَا الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَلَى بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ، صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ، لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ!
____________
- المِرْصَاد: الطريق يُرْصَدُ بها.
- الشّجَا: ما يَعْتَرِضُ في الحلق من عظم وغيره.
- مَسَاغ الرّيق: ممرّه من الحلق.
- شُهُود جمع شاهد: بمعنى الحاضر. وغُيّاب: جمع غائب.
وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ
ومن كلام له (عليه السلام)
وقد سمع قوماً من اصحابه يسبّون أهل الشام
أيام حربهم بصفين
إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ (2) عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ (3).
____________
- العُتْبَى: الرجوع عن الاساءة.
- الارعواء: النزوع عن الغيّ والرجوع عن وجه الخطأ.
- لَهِجَ به: أُولع به.
لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاْنْصَارِ، وَلاَ مِنَ الَّذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ.
ومن خطبة له (عليه السلام)
في شأن الحكمين وذمّ أهل الشام
جُفَاةٌ (2) طَغَامٌ، عَبِيدٌ (3) أَقْزَامٌ، جُمِّعُوا مِنْ كُلِّ أَوْب (4)، وَتُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْب (5)، مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَيُؤَدَّبَ، وَيُعَلَّمَ وَيُدَرَّبَ، وَيُوَلَّى عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاْنْصَارِ، وَلاَ مِنَ الَّذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ.
أَلاَ وَإِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لاِنْفُسِهِمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تُحِبُّونَ، وَاخْتَرْتُمْ لاِنْفُسِكُمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَكْرَهُونَ، وَإِنَّمَا عَهْدُكُمْ بَعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْس بِالاْمْسِ يَقُولُ: إِنَّهَا فِتْنَةٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ (6) وَشِيمُوا سُيُوفَكُمْ (7)، فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِهِ غَيْرَ مُسْتَكْرَه، وَإِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهَمَهُ.
فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِوبْنِ الْعَاصِ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَخُذُوا مَهَلَ الاْيَّامِ، وَحُوطُوا قَوَاصِيَ الاْسْلاَمِ (4)، أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى بَلاَدِكُمْ تُغْزَى، وَإِلَى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى (5)؟.
____________
- العَرَج ـ بالتحريك ـ: موضع بين مكة ومدينه.
- الجُفاة ـ بضم الجيم ـ: جمع جَاف أي غليظ فظ.
- الطَغَام ـ كسحاب ـ: أوغاد الناس. والعبيد: كناية عن رديئي الاخلاق.
- الاقزام ـ جمع قَزَم بالتحريك ـ: أرذال الناس. جُمّعوا من كل أوب: أي ناحية.
- الشَوْب: الخلط، كناية عن كونهم أخلاطاً ليسوا من صراحة النسب في شيء.
- قطعوا أوتاركم: أي قطعوا أوتار القسي.
- شِيموا سيوفكم: أغمدوها ولا تقاتلوا.
- قواصي الاسلام: أطرافه.
- رمي الصَّفاة ـ بفتح الصاد ـ كناية عن طمع العدو فيما باليد، وأصل الصفاة الحجر الصلد.
أَهْلِ الشَّامِ، الْعُمْيِ الْقُلُوبِ، الصُمِّ الاْسْمَاعِ، الْكُمْهِ الاْبْصَارِ،
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى قُثَمَ بن العبّاس، وهو عامله على مكّة
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عَيْنِي (1) ـ بِالْمَغْرِبِ (2) ـ كَتَبَ إِلَيَّ يُعْلِمُنِي أَنَّهُ وُجِّهَ إِلَى المَوْسِمِ (3) أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، الْعُمْيِ الْقُلُوبِ، الصُمِّ الاْسْمَاعِ، الْكُمْهِ (4) الاْبْصَارِ، الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ الْحَقَّ بِالبَاطِلِ، وَيُطِيعُونَ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَيَحْتَلِبُونَ الدُّنْيَا (5) دَرَّهَا (6) بِالدِّينِ، وَيَشْتَرُونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ الاْبْرَارِ الْمُتَّقِينَ، وَلَنْ يَفُوزَ بِالْخَيْرِ إِلاَّ عَامِلُهُ، وَلاَ يُجْزَى جَزَاءَ الشَّرِّ إِلاَّ فَاعِلُهُ.
____________
- عَيْنى: أي رقيبي الذي يأتيني بالاخبار.
- بالمغرب: بالاقاليم الغربية.
- يراد بالموسم هنا: الحج.
- الكُمْه: جمع أكمه، وهو من ولد أعمى. 5. يحتلبون الدنيا: يستخلصون خيرها.
- الدَرّ ـ بالفتح ـ: اللبن.
عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ،
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي
وكان عامله على البحرين، فعزله، واستعمل النعمان بن عجلان الزّرقي مكانه: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُعْمَانَ بْنَ عَجْلاَنَ الزُّرَقيَّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَنَزَعْتُ يَدَكَ، بِلاَ ذَمٍّ لَكَ، وَلاَ تَثْرِيب (1) عَلَيْكَ، فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلاَيَةَ، وَأَدَّيْتَ الاْمَانَةَ، فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِين (2)، وَلاَ مَلُوم، وَلاَ مُتَّهَم، وَلاَ مَأْثُوم، فَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِيرَ إِلَى ظَلَمَةِ (3) أَهْلِ الشَّامِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ (4) عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَإِقَامَةِ عَمُودِ الدِّيِنِ، إِنْ شَاءَ اللهُ.
____________
- التثريت: اللوم.
- الظنين: المتهم، وفي التنزيل: (وما هو على الغيب بظنين)
- الظَلَمَة ـ بالتحريك ـ: جمع ظالم.
- أستظهر به: أستعين.
وَعَصَيْتَهُ أَنْتَ وأَهْلُ الشَّامِ بِي
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى معاوية
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ [قَدْ] جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، وَابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا، لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا، وَلاَ بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا، وَإِنَّمَا وُضِعْنَا فِيها لِنُبْتَلَى بِهَا، وَقَدِ ابْتَلاَنِي [اللهُ] بِكَ وَابْتَلاَكَ بِي: فَجَعَلَ أَحَدَنَا حُجَّةً عَلَى الاْخَرِ، فَعَدَوْتَ (1) عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا بَتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَلاَ لِسَانِي، وَعَصَيْتَهُ أَنْتَ وأَهْلُ الشَّامِ بِي، وَأَلَّبَ (2) عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ، وَقَائِمُكُمْ (3) قَاعِدَكُمْ. فَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ، وَنَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ (1)، وَاصْرِفْ إِلَى الاْخِرَةِ وَجْهَكَ، فَهِيَ طَرِيقُنَا وَطَرِيقُكَ.
وَاحْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اللهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَة (2) تَمَسُّ الاْصْلَ (3)، وَتَقْطَعُ الدَّابِرَ (4)، فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللهِ أَلِيَّةً (5) غَيْرَ فَاجِرَة، لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَإِيَّاكَ جَوَامِعُ الاْقْدَارِ لاَ أَزَالُ بِبَاحَتِكَ (6) (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)
____________
- عَدَوْت: أي وثبت.
- ألّب ـ بفتح الهمزة وتشديد اللام ـ أي: حرّض.
- قالوا: يريد بالعالم أبا هريرة وبالقائم عمروبن العاص.
- القِياد ـ بالكسر ـ: الزمام. ونازعه القِياد: إذا لم يسترسل معه.
- القارعة: البلية والمصيبة.
- تمسّ الاصل: أي تصيبه فتقلعه.
- الدابر: هوالاخر.
- أولي ألية: أي احلف بالله حلفة غير حانثة.
- الباحة: كالساحة وزناً ومعنى.
أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ، وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ
ومن خطبة له (عليه السلام) بعد انصرافه من صفين [وفيها حال الناس قبل البعثة وصفة آل النبي ثمّ صفة قوم آخرين:]
أحْمَدُهُ اسْتِتْماماً لِنِعْمَتِهِ، وَاسْتِسْلاَماً لِعِزَّتِهِ، واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلى كِفَايَتِهِ، إِنَّهُ لاَ يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ، وَلا يَئِلُ (1) مَنْ عَادَاهُ، وَلا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ; فَإِنَّهُ أَرْجَحُ ما وُزِنَ، وَأَفْضَلُ مَا خُزِنَ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلاَصُهَا، مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا (2)، نَتَمَسَّكُ بها أَبَداً ما أَبْقانَا، وَنَدَّخِرُهَا لاِهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا، فَإِنَّها عَزيمَةُ الاْيمَانِ، وَفَاتِحَةُ الاْحْسَانِ، وَمَرْضَاةُ الرَّحْمنِ، وَمَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ (3).
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَالعَلَمِ المأْثُورِ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ، وَالاَمْرِ الصَّادِعِ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالايَاتِ، وَتَخْويفاً بِالمَثُلاَتِ (4)، وَالنَّاسُ في فِتَن انْجَذَمَ (5) فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي (6) اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ (7)، وَتَشَتَّتَ الاْمْرُ، وَضَاقَ
الْمَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، واَلعَمَى شَامِلٌ. عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاْيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وَتَنكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ (1) سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ (2).
أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ، وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ (3)، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلامُهُ، وَقَامَ لِوَاؤُهُ، في فِتَن دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا (4)، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا (5)، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا (6)، فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَار، وَشَرِّ جِيرَان، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بأَرْض عَالِمُها مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُها مُكْرَمٌ.
____________
- وَألَ: مضارعها يَئِلُ ـ مِثل وَعَدَ يَعِدُ ـ نجا ينجو.
- مُصَاصُ كل شيء: خالصُهُ.
- مَدْحَرَةُ الشيطان: أي أنها تبعده وتَطْرُدُهُ.
- المَثُلات ـ بفتح فضم ـ: العقوبات، جمع مَثُلَة بضم الثاء وسكونها بعد الميم.
- انْجَذَمَ: انقطع.
- السّوارِي: جمع سارية، وهي العَمُود والدِّعامة.
- النّجْر ـ بفتح النون وسكون الجيم ـ: الاصل.
- دَرَسَت، كانْدَرَسَتْ: انطَمَستْ.
- الشّرُك: جمع شِراك ككتاب وهي الطريق.
- المَنَاهِلُ: جمع مَنْهل، وهو مَوْرِد النهر.
- الاخْفَاف: جمع خُفّ، وهو للبعير كالقدَم للانسان.
- الاظلاف: جمع ظِلْف ـ بالكسر ـ للبقر والشاة وشبههما، كالخفّ للبعير والقدم للانسان.
- السّنَابك: جمع سُنْبُك ـ كقُنْفُذ ـ وهو طَرَفُ الحافر.